توفيق مدير
اقتصادي وباحث مساعد في مركز سياسات التنمية العالمية ـ جامعة بوسطن
لطالما حاول الاقتصاديون تفسير انخفاض معدلات الخصوبة مع ارتفاع الدخل، لكن التفسيرات البسيطة غالبًا ما تصطدم بواقع أكثر تعقيدًا. لا تقتصر هذه الظاهرة على الجوانب الاقتصادية فقط، بل تتشابك مع القيم الثقافية والتقاليد التي يُهملها بعض الاقتصاديين. حتى كلوديا جولدين، الحائزة على نوبل، وجدت صعوبة في إقناع زملائها بأهمية العوامل غير المادية، فاختارت مخاطبتهم بلغتهم: المعادلات والنماذج الاقتصادية، لكن، هل يمكن للنماذج الاقتصادية تفسير كل شيء؟
وهل يُمكن فصل الاقتصاد عن الثقافة عند تحليل اتجاهات الخصوبة؟ ولماذا تنخفض الخصوبة مع ارتفاع الدخل؟
يُفترض أن الأسر الثرية تنجب أكثر، نظرًا لقدرتها على تأمين حياة أفضل للأطفال، لكن الواقع يكشف العكس. حاولت التفسيرات المبكرة عزو ذلك إلى نقص الوعي بتنظيم الأسرة، لكن مع توفير وسائل منع الحمل، لم تنخفض الخصوبة كما كان متوقعًا، ما أثبت أن القرار الإنجابي أكثر تعقيدًا.
ظهرت فرضيات جديدة، مثل نظرية قيمة الوقت، حيث تؤدي زيادة الدخل إلى زيادة تكلفة الفرصة البديلة للإنجاب، فتصبح الأسر أكثر ميلًا للاستثمار في أشياء أخرى غير الأطفال. ومن ثم جاءت نظرية المفاضلة بين الكمية والجودة، التي ترى أن ارتفاع الدخل يدفع الأسر للاستثمار في جودة حياة عدد أقل من الأطفال، ما يُقلل الرغبة في الإنجاب.
في النهاية، استقر الاقتصاديون على تفسير شائع مفاده أن تعليم وعمل المرأة هما المحركان الأساسيان لانخفاض الخصوبة، حيث تؤجل النساء الإنجاب أو يُقللن عدد الأطفال مع زيادة الفرص التعليمية والمهنية.
لكن هذه النظريات جميعها تُواجه سؤالًا محرجًا: لماذا لا تؤثر هذه العوامل بنفس الدرجة في جميع الدول؟ التفاوت بين الدول: اختلاف ثقافات!
إذا كان من المفترض أن يُخفض النمو الاقتصادي معدلات الخصوبة، فلماذا شهدت بعض الدول مثل اليونان، إيطاليا، اليابان، كوريا، والبرتغال انخفاضًا حادًا في الخصوبة منذ الثمانينيات بعد نمو سريع، لكنه تحول لاحقًا إلى ركود اقتصادي لاحق، في حين حافظت دول أخرى مثل فرنسا، أمريكا، وبريطانيا على مستويات خصوبة أكثر استقرارًا إلى جانب نمو اقتصادي طبيعي؟
يظن الاقتصاديون أن هذا التباين مجرد اختلاف ثقافات، وحتما ستعود الدول التي شهدت انخفاضا حادا لمستويات خصوبة معقولة (أكثر من طفلين للمرأة) كباقي الدول. لكن هذا التفسير السطحي يتجاهل الحقائق التاريخية. فمثلًا: تمتلك بعض الدول التي انخفضت فيها الخصوبة قيمًا عائلية قوية، كإيطاليا وإسبانيا، ومع ذلك شهدت تراجعًا حادًا، بينما دول أخرى أقل محافظة تمكنت من الحفاظ على مستويات خصوبة أفضل.
أم صراع ثقافات؟
تفترض دراسة الاقتصادية الحائزة على نوبل أن تفسير ذلك هو فعلا في اختلاف الثقافات، لكن ليس كما يظن البعض، بل وتحذر من أن الدول قد لا تعود بمعدلات خصوبة تحافظ على النسل. فهي ترى أن التحولات الثقافية والاجتماعية السريعة الناجمة عن النمو الاقتصادي السريع تخلق نوعان من الصراعات داخل المجتمع التي تؤثر في الخصوبة، خاصة في الدول ذات الثقافات المحافظة:
1. صراع الأجيال: الشباب الذين نشأوا في بيئات حضرية أكثر تحررًا يجدون أنفسهم في مواجهة قيم أسرية تقليدية، ما يؤثر في قراراتهم الإنجابية.
2. صراع الجنسين: مع دخول المرأة سوق العمل، تزداد مطالبها بالمساواة في الأدوار الأسرية، ما يخلق تحديات أمام التوازن بين العمل والأسرة، وبالتالي يؤدي إلى انخفاض معدلات الإنجاب.
هل النمو الاقتصادي دائما إيجابي؟
قد يبدو أن النمو الاقتصادي مؤشرٌ على التقدم، لكنه قد يُنتج تحولات اجتماعية مفاجئة لا تتماشى مع إيقاع المجتمع، ما يُؤدي إلى اضطرابات تؤثر لاحقًا في الاقتصاد نفسه. في بعض الدول، تسببت السرعة الفائقة للنمو في تفكيك الروابط الاجتماعية التقليدية، دون إعطاء المجتمع الوقت الكافي للتكيف.
وعلى العكس، فإن الدول التي شهدت تحولات تدريجية استطاعت استيعاب التغيرات دون التأثير السلبي في الخصوبة أو النمو الاقتصادي. وهنا تظهر المفارقة: بعض الدول التي تبنت النموذج الغربي بسرعة كبيرة وجدت نفسها في مأزق ديموغرافي، بينما الدول التي كانت تنميتها تدريجية، امتص المجتمع الصراعات بسلاسة.
الثقافة: حجر الأساس في التنمية
لعل هذه الدراسة الحديثة تكون نقطة انطلاق للتأمل في العلاقة بين الثقافة والتنمية. فكما أكد الاقتصادي السعودي محسون جلال -رحمة الله عليه- منذ الستينيات، بأن استيراد فلسفة تنموية غربية لا يُحقق النجاح إذا لم يكن منسجمًا مع السياق الثقافي المحلي. فالدول التي تحاول تطبيق نماذج تنموية غربية دون مراعاة خصوصياتها الثقافية تُغامر بفقدان توازنها الاجتماعي. فالتنمية ليست وصفة عالمية، بل عملية يجب أن تنبع من داخل المجتمع نفسه. فكل دولة تحتاج إلى نموذج تنموي متجذر في هويتها، يضمن تحقيق التقدم دون التضحية بالتماسك الاجتماعي أو الوقوع في أزمة ديموغرافية لا رجعة فيها.
د.مظهر محمد صالح لم يرحمنِ عقلي ويستسلم للنوم وأنا...
د. مظهر محمد صالح ان ادراك المجال الحيوي الدولي الجديد...
نتناول اليوم دوراً مهماً لمنظمات المجتمع المدني في...
يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً محورياً يشهد تغييرات جذرية...
تماشياً مع إطار التطورات العالمية السريعة في الأنظمة...
منذ يوم تخلت روسيا و بسلبية عالية عن دور ايران وحكم...