عندما تسمع عبارة “صنع في الصين”، ما هي أول صورة تتبادر إلى ذهنك؟
عندما تسمع عبارة “صنع في الصين” فإن أول ما يتبادر إلى ذهنك هو عمالة رخيصة وقطعَ غيارٍ تقليدية رديئة الجودة تُنتَج في مجمعات صناعية ضخمة لا يهمها سوى الكم لا الكيف. هذا الانطباع، وإن لم يكن مطلقاً، فقد رسخ لسنوات كونه تصنيفاً سهلاً للمنتجات الصينية منخفضة التكلفة في الأسواق العالمية.
ومع ذلك، لم يكن هذا الانطباع سوى فصلٍ واحدٍ في قصةٍ أكبر, فبعد عقود من الانغلاق فتح الزعيم الصيني السابق “Deng Xiaoping” أبواب الاقتصاد الصيني أمام العالم فانتقلت المصانع من التركيز على الصناعات الثقيلة إلى إنتاج السلع الاستهلاكية الرخيصة ثم بدأت مرحلة جديدة من الترقية النوعية مع ارتفاع الأجور وتصاعد المنافسة الدولية ودخول الصين إلى الأسواق التكنولوجية.
في عام 2015؛ أطلقت بكين مبادرة “صنع في الصين” (MIC 2025: Made In China 2025) لتكون نقطة التحول الكبرى من “مصنع العالم” إلى قوة صناعية تكنولوجية. تهدف هذه الرؤية الوطنية إلى ترسيخ الاكتفاء الذاتي التقني وتعزيز الابتكار والجودة ورفع قيمة السلع المصدرة، ليس كاستجابة لضغوط النمو فحسب بل كركيزة لاستراتيجية وطنية شاملة تنطلق منها الصين للريادة في الصناعات المتقدمة وحماية أمنها القومي.
لكن, كيف ترسّخ لدينا الانطباع بأن المنتجات الصينية رخيصة ورديئة خلال العقدين الأخيرين؟
ما دور تحول الصين من الصناعات الثقيلة في الثمانينيات إلى إنتاج السلع منخفضة التكلفة في ذلك؟
كيف مهدّت سياسات الزعيم الصيني السابق “Deng Xiaoping” بوابة الانفتاح والابتكار لتطوير سلاسل التوريد وخفض تكاليف الإنتاج؟
الذي دفع الصين في عام 2015 إلى إطلاق مبادرة “صنع في الصين 2025” كخطوة نوعية نحو الصناعات المتقدمة؟
وكيف استجابت القوى الصناعية الكبرى — الولايات المتحدة وأوروبا واليابان — لهذه الرؤية؟
كيف استفادت دول الشرق الأوسط من مبادرة “الحزام والطريق” لتعزيز استثماراتها الصناعية وتقليل الاعتماد على الموردين التقليديين؟
ما الاستراتيجيات التي اعتمدتها الصين ضمن خطتها MIC 2025 لتحسين جودة منتجاتها ورفع قدراتها الابتكارية؟
وكيف تشكل خطط “رؤية 2035″ و”معايير الصين 2035” امتداداً واستكمالاً للمسيرة التي بدأتها بخطة MIC 2025 نحو ريادة صناعية وتكنولوجية بحلول عام 2049؟
شهدت الصناعة الصينية تحولاً جذرياً على مدى العقدين الماضيين فبعد عقود من التركيز على الصناعات الثقيلة فقد تحول اهتمام الصين خلال فترة الإصلاح والانفتاح إلى الصناعات الخفيفة في الثمانينيات لتصبح مصدراً رئيسياً للمنتجات المصنعة منخفضة التكلفة, وقد ساهمت تكاليف العمالة المنخفضة والاقتصاديات الكبيرة وسلاسل التوريد المتطورة في نمو الصادرات الصينية بشكل كبير مما جعل الصين “مصنع العالم”, ففي عام 2004 كانت حصة الصين من الناتج الصناعي العالمي أقل من 9% ولكن بحلول عام 2011 تجاوزت الصين الاتحاد الأوروبي لتصبح الرائدة عالمياً في التصنيع واستمر هذا الاتجاه حيث بلغت حصتها 29% في عام 2023. ومع ذلك، أدركت القيادة الصينية أن الاعتماد المفرط على نموذج التصنيع منخفض التكلفة لم يعد مستداماً فمع ارتفاع تكاليف العمالة وتزايد الطلب على منتجات ذات جودة وقيمة مضافة أعلى فقد كان لا بد من وضع رؤية جديدة للصناعة الصينية, وقد تفاقمت هذه الحاجة بسبب التوترات التجارية المتزايدة والمنافسة من الدول الصناعية الأخرى. ولذلك, أتت فكرة رؤية “صنع في الصين 2025”.
جاءت مبادرة “صنع في الصين 2025” في عام 2015 استجابة لعدة عوامل استراتيجية واقتصادية فقد أدركت الصين ضرورة الارتقاء بقدراتها التصنيعية للانتقال من إنتاج سلع منخفضة التقنية إلى صناعات ذات تقنية عالية وقيمة مضافة أكبر. كان الهدف هو تحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الأساسية وتقليل الاعتماد على الموردين الأجانب في الصناعات الحيوية كما سعت الصين إلى تعزيز الابتكار والجودة والكفاءة والاستدامة في جميع مراحل الإنتاج لمنافسة الدول الصناعية المتقدمة بشكل فعال, وقد استلهمت الصين هذه الخطة من مبادرات مماثلة في دول أخرى مثل ألمانيا (Industry 4.0) واليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي كانت تسعى لتعزيز قدرتها التنافسية التكنولوجية.
أثارت خطة “صنع في الصين 2025” مخاوف كبيرة لدى الدول الصناعية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بسبب طموحها لتحقيق الهيمنة في الصناعات التكنولوجية المتقدمة.
فالولايات المتحدة الأمريكية نظرت إلى خطة MIC 2025 على أنها تهديد مباشر لريادتها التكنولوجية والاقتصادية فقد أثارت الخطة مخاوف بشأن نقل التكنولوجيا القسري وسرقة الملكية الفكرية والإعانات الحكومية الضخمة التي تقدمها الصين لشركاتها المحلية مما قد يؤدي إلى تشويه المنافسة في الأسواق العالمية, وقد ردت الولايات المتحدة بفرض تعريفات جمركية على السلع الصينية وتقييد بعض الشركات الصينية من الوصول إلى البنية التحتية الأمريكية بالإضافة إلى تشديد الرقابة على الاستثمارات الصينية في قطاعات التكنولوجيا الاستراتيجية, وقد ذهب وزير الدفاع الأمريكي إلى حد وصف الصين بأنها تمثل التهديد الأكبر للنظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه أمريكا، مشيراً إلى أن الصين لديها الإرادة والقدرة على إعادة تشكيل النظام العالمي بأكمله.
أما على الصعيد الأوروبي فقد أبدت أيضاً قلقها بشأن تأثير خطة MIC 2025 على صناعاتها وقدرتها التنافسية فقد رأت أن الخطة قد تؤدي إلى إزاحة الشركات الأوروبية من السوق الصينية وتعزيز الاعتماد على التكنولوجيا الصينية في بعض القطاعات الحيوية, وقد بدأت بعض الدول الأوروبية في تبني استراتيجيات صناعية أكثر حمائية لمواجهة التحديات التي تفرضها الخطة الصينية ومع ذلك ترى بعض الشركات الأوروبية أيضاً فرصاً للتعاون مع الصين في تنفيذ خطة MIC 2025 خاصة في المجالات التي تتمتع فيها أوروبا بخبرة وتقنية متقدمة, وقد أظهرت الإحصائيات أن الصين قد وسعت حصتها في واردات الاتحاد الأوروبي في السلع المصنعة المتطورة وهي القطاعات التي تتخصص فيها ألمانيا تقليدياً مما يشير إلى منافسة متزايدة.
أما في أقصى الشرق, فتعتبر اليابان من الدول التي قد تتأثر بشكل كبير بخطة MIC 2025 نظراً لاعتمادها الكبير على صادرات السلع عالية التقنية فقد تخشى اليابان من أن تؤدي الخطة الصينية إلى تآكل حصتها السوقية في قطاعات مثل الإلكترونيات والروبوتات وغيرها, وقد بدأت اليابان في اتخاذ بعض الإجراءات لمواجهة هذا التحدي مثل تعزيز الابتكار المحلي وتقوية تحالفاتها مع دول أخرى, وقد حذرت الصين اليابان من أن قيودها على تصدير الرقائق تهدد سلاسل التوريد العالمية مما يسلط الضوء على التنافس المتزايد في قطاع التكنولوجيا المتقدمة, وقد قامت اليابان بتوسيع قيود التصدير لتشمل الرقائق المتقدمة وتكنولوجيا الحوسبة الكمومية مما أثار تحذيرات من الصين بشأن التأثير السلبي على التجارة بين البلدين وعلى استقرار سلاسل التوريد العالمية.
يشهد الشرق الأوسط تحولاً في العلاقات الدولية حيث تسعى دول المنطقة إلى تنويع شراكاتها وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة وقد وجدت الصين في هذا التحول فرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة. تعتبر الصين أكبر مستورد للنفط من الشرق الأوسط مما يجعل المنطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة لأمن الطاقة الصيني وقد استثمرت الشركات الصينية بكثافة في مشاريع البنية التحتية في المنطقة في إطار مبادرة الحزام والطريق بما في ذلك الاتصالات وشبكات الجيل الخامس والكابلات البحرية كما لعبت الصين دوراً في الوساطة بين القوى الإقليمية المتنافسة مثل السعودية وإيران, مما عزز مكانتها كلاعب دبلوماسي مهم في المنطقة. وقد ارتفعت الاستثمارات الصينية في الشرق الأوسط في إطار مبادرة الحزام والطريق بشكل كبير لتصل إلى 39 مليار دولار في عام 2024 مما يجعل المنطقة أكبر مستفيد من هذا البرنامج.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى دول الشرق الأوسط إلى تطوير اقتصاداتها وتنويع مصادر دخلها بعيداً عن النفط, وتجد في الصين شريكاً جذاباً لتحقيق هذه الأهداف فالصين تقدم استثمارات كبيرة في قطاعات مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والبنية التحتية الرقمية دون فرض شروط سياسية وهو ما يفضله العديد من قادة المنطقة وبالفعل أصبحت الصين بالفعل أكبر شريك تجاري للعديد من دول الشرق الأوسط في القطاعات غير النفطية, شهدت الصادرات غير النفطية من السعودية إلى الصين نمواً كبيراً بنسبة 70% مما يعكس تعميق العلاقات التجارية بين البلدين, وتعد الإمارات العربية المتحدة والهند والصين من بين أهم الوجهات لصادرات المملكة العربية السعودية غير النفطية.
أَوْلَتْ مبادرة “صنع في الصين 2025” اهتماماً خاصاً لتحسين جودة المنتجات المصنعة في الصين وذلك بهدف تعزيز قدرتها التنافسية على المستوى الدولي. تسعى الخطة إلى الارتقاء بالصين من موقع المنتج ذي التكلفة المنخفضة إلى منتج سلع عالية الجودة وذات قيمة مضافة قادرة على منافسة الدول الصناعية المتقدمة مثل كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا. لتحقيق هذا الهدف، تم تبني العديد من الاستراتيجيات التي تركز على الابتكار التكنولوجي والتصنيع الذكي حيث يتم دمج الإنترنت وأجهزة الاستشعار اللاسلكية والروبوتات لتحسين كفاءة التصنيع وجودته وإنتاجيته, كما تولي الخطة أهمية كبيرة لتوحيد الممارسات والمعايير في مختلف الصناعات, وإدخال أنظمة اختبار وشهادات لضمان مطابقة المنتجات للمعايير الدولية في جميع القطاعات الرئيسية من براءات الاختراع الطبية إلى كفاءة استهلاك الوقود. بالإضافة إلى ذلك، تهدف الخطة إلى تطوير الوعي بالعلامات التجارية الصينية وتشجيع الشركات على تبني ثقافة الجودة والتحسين المستمر, وقد ارتفع مؤشر القدرة التنافسية للجودة التصنيعية في الصين إلى 85.6 في عام 2024 مما يدل على التحسين المستمر في جودة التصنيع.
وقد بدأت الصناعات الصينية بالفعل في إظهار تقدم ملحوظ في مجالات الجودة والابتكار في السنوات الأخيرة فقد شهدت الصين مؤخراً نمواً سريعاً في القدرات الابتكارية في قطاعات مثل الروبوتات والطاقة النووية والمركبات الكهربائية والأدوية الحيوية والذكاء الاصطناعي, كما حققت العلامات التجارية الصينية خطوات كبيرة في تحسين معايير الجودة والانتشار في الأسواق العالمية مما يعكس تحسناً في جودة المنتجات وثقة المستهلكين في هذه العلامات. إن هذا التركيز المتزايد على الابتكار والتصنيع الذكي يشير إلى تحول استراتيجي نحو إنتاج سلع ذات قيمة تقنية أعلى يصعب تقليدها.
لعب الاستثمار الضخم في البحث والتطوير دوراً حاسماً في دفع هذا التحول فالصين تستثمر بكثافة في البحث والتطوير بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الرئيسية ودفع عجلة الابتكار وتقدم الحكومة الصينية دعماً مالياً كبيراً للشركات المحلية من خلال الإعانات والقروض ذات الفائدة المنخفضة والإعفاءات الضريبية لتشجيع الابتكار وتطوير التقنيات المتقدمة كما تشجع السياسات الحكومية على عمليات الدمج والاستحواذ على شركات التكنولوجيا الأجنبية ونقل التكنولوجيا إلى الصين. إن هذه الزيادة الهائلة في الإنفاق على البحث والتطوير تعكس التزاماً وطنياً بتحقيق الريادة التكنولوجية وتقليل الاعتماد على الخارج, وقد تجاوز إنفاق الصين على البحث والتطوير 3.6 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة قدرها 8.3% عن عام 2023، مما يضعها في المرتبة الثانية عالمياً في هذا المجال.
وقد ظهرت بالفعل أدلة ملموسة على التقدم الذي أحرزته الصين في القطاعات الرئيسية المستهدفة فقد أصبحت الصين رائدة عالمياً في بعض الصناعات التحويلية الناشئة مثل الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية والطائرات بدون طيار بالإضافة إلى الصناعات الثقيلة مثل بناء السفن والسكك الحديدية فائقة السرعة, كما حققت الصين نمواً كبيراً في مجال الذكاء الاصطناعي حيث تهدف الصين إلى أن يصبح الذكاء الاصطناعي محركاً أساسياً للتحول الاقتصادي بحلول عام 2025, وتجاوزت مبيعات سيارات الطاقة الجديدة (NEVs) في الصين مبيعات السيارات التقليدية التي تعمل بالوقود الأحفوري لخمسة أشهر متتالية في عام 2024 مما يدل على تبني المستهلكين للتقنيات الجديدة. إن هذا النجاح في قطاعات مثل المركبات الكهربائية والسكك الحديدية فائقة السرعة يدل على قدرة الصين على تحقيق أهدافها في المجالات التي أولتها اهتماماً خاصاً, وقد حققت الصين إنجازات ملحوظة في مجالات أخرى مثل الحوسبة الكمومية حيث طورت معالجات كمومية متقدمة وفي مجال استكشاف الفضاء بالإضافة إلى تطوير شبكات الجيل الخامس المتقدمة.
وقد شهد قطاع السيارات الكهربائية الصيني تطوراً ملحوظاً حيث أصبحت الصين متقدمة على العالم في هذا المجال فبينما كانت الشركات الصينية تسعى في الماضي للتعلم من الأوروبيين صناعة السيارات فقد أصبح الوضع معكوساً اليوم فالشركات الألمانية تسعى للدخول في مشاريع مشتركة مع نظيراتها الصينية لاكتساب أحدث التقنيات في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية، التي تعتبر الأكثر تطوراً في العالم, وقد تجلى هذا التحول في الشراكة التي أبرمتها BMW مع شركة Alibaba الصينية لتطوير برمجيات القيادة الذكية باستخدام الذكاء الاصطناعي وهدف الألمان من هذه الشراكة هو محاولة اللحاق بالشركات الصينية في هذا المجال. كما دخلت Mercedes في شراكة مع Huawei في سياراتها بدءاً من عام 2026 بهدف اللحاق بالشركات الصينية الرائدة في مجال البرمجيات وتكنولوجيا البطاريات. ونتيجة لهذا التحول، انخفضت حصة الشركات الأجنبية في سوق السيارات الصيني إلى أدنى مستوى لها تاريخياً في أوائل عام 2025 حيث بلغت 31% فقط.
ياسر المتولي ملتقى العراق للاستثمار حدث كبير تحتضنه...
د. مظهر محمدصالح وفقا للقراءات الاكاديمية ان الفرق بين...
د. مظهر محمد صالح عقد في بروكسيل عاصمة الاتحاد...
يحتضنُ العراق مؤتمر القمة العربية بنسخته الجديدة،...
يشهد الاقتصاد العراقي في الفترة الحالية تركيزاً...
منير شفيق شهد العالم في الفترة الممتدة...