جامعة هارفرد و ميدان الحرب مع الحيوان

الأربعاء 23 نيسان 2025 قبل 5 أيام

د.مظهر محمد صالح

يالها من ذكريات عظيمة في حي كمبردج من مدينة بوسطن الامريكية حيث ترقد جامعة هارفارد شامخة في وسط ذلك الحي العريق . 

فحالما ان تعبر الجسر الذي يقطع نهر تشارلس الذي يتوسط مدينة بوسطن تجد نفسك امام منظر جميل من تدفق المياه التي تداعب تلابيب العقل .في حين اصطفت على ضفتي النهر ابنية اضفت الهدوء والجمال رونقاً انعكس ظلاله على مياه نهر تشارلس نفسه ولتجد نفسك في بقعة اكاديمية قل نظيرها كلما اقتربت من هارفرد الجامعة. اذ يشتهر النهر بكونه محاطًا بصروح جامعات عالمية هي الاولى في العالم وتحديدا  هارفارد (Harvard)و معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).

اذ تتمتع بوسطن نفسها ،وقبل العبور الى حي كمبردج ،بشبكة انفاق عملاقة كانت المهندسة المدنية المشرفة على هذه الانفاق والتقاطعات عراقية الاصل والولادة .وتقول الرواية الحقيقية في اعمار مدينة بوسطن ان هناك تراكم تاريخي من سلالات الجرذان التي عاشت بالتعاقب وتكاثرت بانفاق تحت الارض وجاءت الى اميركا برفقة البضائع المحملة على ظهر السفن التجارية لتعيش وتتناسل تحت ارض بوسطن عاصمة ولاية  ماساسيويتس الامريكية منذ القرن الثامن عشر . ففي النفق الاول العملاق واثناء عمليات الحفر تجمعت فيه ،اثناء حفره في الوهلة الولى ،اعداد قدرت بملايين الجرذان كانت جميعها على اهبة الاستعداد لمهاجمة المدينة واعمالها الانشائية مما اضطر المهندسة العراقية وبلدية بوسطن اعلان حالة الطواري القصوى والاستعانه بالحرس الوطني للولايات المتحدة الامريكية لصد هجمات الجرذان التي داهمها الجوع واللااستقرار تحت اراض المدينة نفسها.ولم تنفك القوات المسلحة حينها الا باستخدام اسلحة الدمار الشامل لكي تتمكن الحفارات والحادلات والآليات الاخرى مواصلة اعمالها بغية اقامة واحدة من اعظم شبكات الانفاق والطرق السريعة في مدن العالم العصرية. وهكذا كانت الانفاق ساحة القتال بين الحيوان والانسان في اعماق الارض و باشراف وقيادة هندسية عراقية هذه المرة. 

حالفني الحظ بعد ان استمتعت بقصة معركة الجرذان واطرافها المنتصرة بان ازور واحدة من  بين اعظم تلك الصروح العلمية في العالم( انها جامعة هارفرد )في حي كمبردج مرورا من فوق نهر تشارلس المحاط بالابنية الرائعة  .اذ انسحبت يومها تلقائيا من وسط مبنى الجامعة الى مكتبتها العريقة التي يؤمها نخبة من الدارسين في البحث عن الحقيقة ولم انته من زيارتي الا بحدثين لافتين ،الاول :اطلاعي على فعالية طلابية انتقامية تمثلت بقيام ثلة من طلاب (جامعة ييل )بوضع اصباغ غير

لائقة على تمثال مؤسس الجامعة الذي اعتمر شامخاً في وسط الجامعة وذلك تعبيراً انتقامياً عن خيبة املهم وخسارتهم امام فريق كرة القدم لجامعة هارفرد،وكانت اشبه ما بحرب الجرذان في تسللهم ليلاً لاجراء تلك الاعمال الانتقامية الساذجة .اما الحدث الثاني، يتمثل ببلوغي معرض بيع الكتب في الجامعة نفسها وقيامي بشراء كتاب حديث في الاقتصاد الكلي… تمتعت بالحصول عليه بكل يسر .

وختمت زيارتي لجامعة هارفرد في تناول طعام الغداء في واحده من مطاعم حي كمبردج التي تعج بخليط من الطلاب من كلا الجنسين .فالزبائن هم الطلبة وعمال المطعم هم من الطلاب ايضاً …. فبين الاجواء المهنية والاجواء الاكاديمية قضيت يوم عطلة الاحد في صيف بوسطن لاكتشف ملامح من السعادة شكلت رمزية رائعة من رموز الحلم الأكاديمي الذي افنيت حياتي في التطلع اليه . ومنذ ان غادرت مباني جامعة هارفرد في ذلك اليوم المشرق من نهايات صيف اميركا الشمالية مررت بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا الشهير MIT وانا احدث سري بتاريخ هذه المدينة الاقتصادي التي صارعت موانئها الناشئةً سفن تولت صناعة صيد الحيوانات البحرية العملاقة في المحيط الاطلسي الشمالي ، متذكراً في الوقت نفسه تلك الرواية الكلاسيكية للكاتب الاميركي  هيرمن ميلفيل (Herman Melville)، والتي نُشرت لأول مرة عام 1851 وهي بعنوان “موبي ديك” (Moby-Dick)،

اذ تحكي الرواية قصة الكابتن آهاب، قائد سفينة صيد الحيتان، الذي ينطلق في رحلة مهووسة للانتقام من الحوت الأبيض العملاق موبي ديك، الذي تسبب له بإصابة جسدية، يلحظ ان هيرمن ميلفل الذي صدرت روايته اعلاه هي مستوحاة من القصة الحقيقية لغرق سفينة إسيكس (Essex) في العام 1820، وهي الحادثة الواقعية التي ألهمت ميلفيل لكتابة رواية “موبي ديك”. حيث تحول غرق السفينة الى فيلم او دراما سينمائية في العام 2015 الذي أخرجه رون هاورد

و حمل عنوانا آخر اسمه:(في قلب البحر In the Heart of the Sea) اذ جسد الفيلم معاني الرعب في تلك السفينة التي غادرت جزيرة(نانتكر)قبالة مدينة بوسطن الاميركية مبحرةً الى اعماق المحيط لصيد الحيتان. وبعد عام على ابحارها قاومها حوت ابيض عمل على تحطيمها ولم ينجُ في نهاية المطاف سوى خمسة من بحارتها حيث قَتل بعضهم البعض ليعتاشوا على جثث قتلاهم بعد ان نفد الطعام وشح الماء واصابهم الجوع والعطش والهذيان. 

واخيرا تشكل رواية (موبي ديك )للكاتب الأميركي هيرمن ميلفيل عملاً أدبيًا فذًا، ليس فقط بسبب قصتها المشوقة عن مطاردة حوت عملاق، بل لما تحمله من رمزية عميقة حول صراع الإنسان مع القدر، والجنون، والطبيعة الغامضة. 

فالكابتن آهاب، باندفاعه المجنون وراء الحوت الأبيض، يجسد فكرة الهوس المدمر الذي يعمي الإنسان ويقوده إلى نهايته. فالرواية لا تدور حول صيد حوت فحسب، بل هي رحلة فلسفية في أعماق النفس البشرية.

وعلى الرغم من ان  فيلم (في قلب البحر ) يتقاطع مع رواية (موبي ديك )في موضوع الحوت، إلا أنه يبتعد عن الرمزية، ويركز على الواقعية التاريخية. لكنه يعيد سرد القصة الحقيقية لغرق سفينة “إسيكس”، التي ألهمت ميلفيل كتابة روايته في العام 1851 . اما الفيلم فيسلّط الضوء على معاناة الطاقم، والخوف، والجوع، والانهيار النفسي، مما يضع المشاهد في قلب الكارثة الإنسانية.

فبينما تستخدم رواية (موبي ديك ) الحوت كرمز للشر أو الطبيعة التي لا تُقهر، يقدم  فلم (قلب البحر ) عند غرق السفينة إسيكس، الحوت  ككائن بريء  عملاق يدافع عن نفسه، لتتحول القصة من أسطورة أدبية إلى ملحمة واقعية عن النجاة. لكن هناك لحظة مهمة في الفيلم تُظهر نوعًا من الرحمة أو التفاهم الضمني بين الكابتن أو الصياد (أوين تشايس) والحوت، حين يتقابلان في مشهد مؤثر، ولا يطلق النار عليه. في تلك اللحظة، يختار الحوت ألا يهاجم القارب الصغير، مما يمكن اعتباره فعلاً رمزيًا كأنه “أنقذهم” أو على الأقل سمح لهم بالنجاة.

يجسد العملان، كلٌ بطريقته، صراع الإنسان مع المجهول — الأول أدبي وفلسفي، والثاني إنساني وتاريخي

كان الدافع وراء كل تلك المغامرة هو اصطياد الحيتان للحصول على دهونها وتصنيع لحومها وحتى عظامها. واللافت ان احد الناجين من كارثة الغرق اسس من فوره شركة مختصة بعمليات تمويل وتجهيز مستلزمات سفن صيد الحيتان وكانت من طلائع الشركات الاحتكارية الكبرى التي تاسست في ميناء بيدفورد الجديد في اميركا في العام 1859.

ختاما ً، طويت زيارتي لجامعة هارفرد العريقة وحادثة حرب الحيوان والصراع مع الجرذان والحيتان ظلت تلازم رفوف ذاكرتي منذ زيارتي الى بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس حيث تشمخ هارفرد في قلب بوسطن نابضة حرة  لا تأبه بعواء الغريزة طالما سيظل العقل يصطدم بالمخلب .

تواصل معنا
المقالات
جميع الحقوق محفوظة - مؤسسة قيراط للتطوير الاقتصادي 2025